السعودية و انحسار الموجة الأصولية
هذا مقال الوداع، أشرح فيه كيف ودعت المملكة العربية السعودية حقبة امتدت طويلا، حقبة نشبت بأظفارها في كل مظاهر الحياة السعودية محولة إياها إلى لوحات ممزقة لا يرى فيها الجمال إلا لماما.
في كتابه “الانسداد التاريخي”، يسهب المفكر هاشم صالح في تشريح الأثار القاسية التي تركتها الحركات الدينية الأصولية على دول العالم العربي, و سأسهم بدوري ككاتبة مقال في توضيح تجليات الحركات الأصولية في المملكة، تحديدا من خلال ما عرف بـ “الصحوة”.
يقول عبدالله القصيمي في كتابه شديد النبرة “أيها العقل من رآك”
” التحريم، في جميع صوره، ليس إلا مقاومة للحياة.”
و قال غازي القصيبي رحمه الله في معرض رده على الحملات التشنيعية التي أثارها ضده بعض مشايخ الصحوة باستخدام الكاسيت الذي تم تكييفه ليستخدم كوسيلة وعظية برز كأحد تشظيات الصحوة في القرن الفائت, إذ قرر القصيبي أن يؤطر رده عليهم في شريط كاسيت قائلا، “لا يفل الكاسيت الا الكاسيت”.
أما الدكتور عايض القرني فقد خطا خطوته المزلزلة عندما قدم اعتذاره الشهير للسعوديين و السعوديات عن فترة الصحوة، التي كان هو أحد أهم رموزها، و ما صاحبها من أخطاء و تضييق على الناس و تعطيل لدنياهم.
يسرقون أعمارنا ثم يعتدلون
خلف الحربي
عانت المملكة من الانسداد التاريخي عقودا طويلة حيث تعملقت الصحوة و اتخذت لها أماكن وثيرة في الأنساق الثقافية و الفكرية و الاجتماعية، و قام عرابوها باستلاب المجتمع، خصوصا فئتي الشباب و النساء، مدخلينهم في سبات قسري طال امده تحت ذريعة أسلمة الحياة. اخذت الصحوة لنفسها الحق باعتلاء المنابر الثقافية و الإعلامية و قامت بتعقيم المنتجات الفكرية حسب المعايير التي قامت بوضعها بفردانية لزجة. إبان تلك الحقبة، تفنن رموز التيار الصحوي بممارسة الاستئساد الفكري و الوعظي ثم تنعموا بما اسبغه ذلك عليهم من مشروعية و حضور و نجومية مجتمعية و منبرية.
اصطبغت مظاهر الحياة بصبغة دينية ذات صوت إنكاري مؤلب فأضحت مناحي الحياة، حتى الاعتيادية منها، ذات طيف واحد يتدرج صارخا بعداء لثقافة الحياة و تمجيد لثقافة الموت. من مخرجات تلك الحقبة الضمور الثقافي و الفكري و الخلط بين الإسلام كدين و الصحوة كأيديولوجيا متزمتة في كثير من معطياتها.
عودة الى مصطلح الانسداد التاريخي الذي خصص المفكر هاشم صالح ٣٠٠ صفحة لتبيان مدى تمدده و تعمقه في مجتمعات العالم العربي، و قام أيضا بمناقشة الكيفية الواجب اتباعها لفك هذا الانغلاق. الانسداد التاريخي غاص كمبضع في دول العالم العربي مؤديا إلى تفريط ثقافي و تسطيح معرفي و تعطيل تنموي و أسطرة للرموز (لحومهم مسمومة)!.
فما هو المقصود بهذا المصطلح؟ أولا، الانسداد التاريخي هو نتيجة و ليس سبب، وقد وقع حينما أصر العرب على التمسك بالنظرة التقليدية للعالم، مع ما فيها من تعصب و تزمت،فتحققت القطيعة مع الرؤى العلمية و الفلسفية. كان من افرازات تلك المرحلة العنف الطائفي و التمترس المذهبي اللذين أعاقا تقدم العالم العربي حضاريا و علميا و حتى إنسانيا في بعض الأحوال. لم تكن دول أوروبا و أمريكا الشمالية بمعزل عن الحركات الدينية المتسلطة و سلطة رجال الدين و البابوات،(محاكمة جاليليو نموذجا)، لكنهم خاضو ضدها حروبا دموية و تطهيرية فتحررو من عقدها فكانت مرحلة التنوير و التحرر من ربقة اللاهوت.
هل من الممكن أن ينفك هذا الانسداد؟ وكيف؟ لا شك ان ذلك ممكن بالتموضع داخل السياق التاريخي العالمي و تفكيك الجدران الطائفية بين السنة و الشيعة و هدمها للسماح للتنوير بالولوج و ميلاد إسلام متصالح مع الحداثة و متحرر من وطأة الأيديولوجيا.
الذي حصل في المجتمع السعودي أن أيديولوجيا الصحوة أصبحت هي أيديولوجيا المجتمع في الغالب الأعم بسبب ما تحقق لتيارها من قوة و هيمنة، فاحتلت الشارع و المنبر و المسجد. أما في الوقت الحالي فقد تهاوت الصحوة و انفتحت المنصات و الفضاءات على خبرات شبابية متجددة من الجنسين تشتغل على التنمية و البناء و الانتاج. و المملكة اليوم إذ تستعد لإقلاع حضاري صاروخي، فإن أي دعوة للنظر إلى الخلف مرفوضة، رهانات هذا الإقلاع تتنوع ما بين التسامح الديني و التآخي الجندري تمهيدا للعودة لحلبة التاريخ، عن طريق تشكيل مجتمع مدني منسجم، حضاريا و فكريا، مع سائر شعوب العالم. جميع المقدرات من عناصر القوة الناعمة و الصلبة تعمل لتمهيد الانتقال المنشود. الخطوة الأولى تمثلت في القدرة على طرح المشكلة بشكل صحيح، وبالتالي التمكن من حلها، فمرحلة التشخيص الناجع بالضرورة تشكل خارطة طريق تدلنا صوب الحل الملائم. و موت الصحوة ما هو الا خطوة البداية لمشوار طويل يعتمد على تمظهرات الما بعد:ما بعد الطفرة و ما بعد الصحوة.