..ظلال رقمية
!التائهون أون لاين
لا تقطع الجذوع
فربما يأتي الربيع
و العام عام جوع
فلن تشم في الفروع.. نكهة الثمر!
و ربما يمر في بلادنا الصيف الخطر
فنقطع الصحراء.. بحثا عن الظلال
فلا ترى سوى الهجير و الرمال
و الظمأ الناري في الظلوع!
من المصطلحات الجديدة نسبيا التي فرضتها الثورة الرقمية التي نعايشها حاليا، مصطلح influencer, هو من يحظى بمتابعين/ات كثر ناشرا محتوى يروق لهم فيتصدر قائمة ما اتفق على تسميتهم بالمشاهير الذين يبحث المتابعين احيانا عن زلاتهم أكثر من إسهاماتهم. هذا ال public figure ينتظم خلال منظومة مكونا أحد أعمدتها، تسبح هذه المنظومة في بحر لجي يصطف فيه الناس مستسلمين لأمواجه العاتية دونما مقاومة تذكر. عدم السباحة و تضاءل المقاومة ينتج عنه سمنة رقمية، و هذه السمنة لا تختلف كثيرا عن سمنة الدهون و الشحوم التي تصنف في علم الأمراض على انها داء و مرض يجب أن يكافحه الإنسان و يسعى للتخلص منه.
اسيا ascia@, فاشينيستا من دولة الكويت، شاركت على يوتيوب فيديو اسهبت خلاله في الحديث عن هويتها الإلكترونية، أو ما اسمته بــ، “my online identity”، كانت آسيا في ذلك الفيديو تخبر المتابعين و المتابعات عن قرارها المصيري بخلع الحجاب. في التقاطة تأملية كان السؤال: لماذا هذا السعي المحموم لتصعيد البوح و تقشير الذات؟ الإجابة التي تلائم هذا الطرح تتمثل في السعي المحموم للتأثير على المتابعين. ما لفتني في ذلك الفيديو رسالتها التي مفادها انها قضت العشرينات من عمرها مع المتابعين أون لاين! مدهش هذا الإعتراف و مربك! كيف لشخص أن يتعالق طوال ساعات يومه بين ذاته الحقيقية و هويته السيبرانية. تساؤل موجه إلى جيل الألفية-الميديائيين الأصيلين- حيث لا ينبئكك مثل خبير.
من أهم ارهاصات هذا الطغيان الرقمي، ما يتشكل عنه من الهويات الرقمية التي يعمل أصحابها على تغذيتها باستمرار، فتتحصل الحسابات الاجتماعية على مصفوفات تكنو-بشرية تتمثل في إعجاب، تعليق و مشاركة، تلك إذن هي حصيلة الامتيازات التي تهبها اللحظة الإلكترونية.
Attention Economy هذا الفرع الاقتصادي الجديد يقتلع الناس من جذورهم، أيا كانت هذه الجذور، فكرية أو ثقافية أو مجتمعية. تقوم ربحية هذا الاقتصاد الحديث على تشتيت أذهان البشر و تسليع لحظاتهم اليومية، فأضحت حسابات الفرد على مواقع التواصل هي ما يضيف قيمة له، فيساءل التقاطاته المختلفة، is it instagramable؟ هل هي قابلة للنشر؟ فالمتوقع هنا أن يخضع المزاج الفردي و النزعة الذاتية للفرد لتقييم المتابعين و المتابعات.
مفاهيم “اقتصاد الانتباه” تفرز اشتراطات تسعى إلى طمس الحدود المفترض وجودها بين المجالات المادية و الرقمية و البيولوجية، حيث القرين الافتراضي يزاحم الشخصية الواقعية تاركا بصماته في الحياة الرقمية اليومية و يشاطرنا هرولتنا في دهاليز الترسانة الإلكترونية.
ليس المقصود من هذا الطرح شيطنة ما نعاصره من اكتساح رقمي، بل المحاولة لتجهيز وصفة دوائية تساعد على هضم هذه السيولة المعلوماتية الجارفة. من إرهاصات السمنة الإلكترونية يتمظهر لدينا شكل من أشكال العبودية الديمقراطية-العبودية الرقمية- هذه العبودية ديمقراطية لأنها طوعية فنحن ننغمس في النشاط الافتراضي بواسطة اجهزتنا فائقة الذكاء التي تغذي هذه العبودية و تسهل للمستخدمين التمادي في الاستعراء بكل معانيه الرمزيه و تمثيلاته المادية.
مؤخرا، قرأت الكتاب الذي حظي بقدر وافر من الشهرة: Digital Minimalism للكاتب الأمريكي Cal Newport. الفكرة الأساسية للكتاب هي الدعوة للتخفف الإلكتروني. الفلسفة التكنولوجية التي يطرحها الكاتب قد تحمل شيئا من الغرابة إذا علمنا أن المؤلف يحمل الدكتوراة في علوم الحاسب، مع ذلك يفتخر عندما يقدم نفسه بأنه شخص لا يملك أي حسابات على مواقع التواصل! يساعد الكاتب القراء على التحول لنمط الحياة الذي أسماه بـ digitally minimalist lifestyle. يقدم الكاتب عددا من المبادىء و التقنيات التي من شأنها أن (١) تعين المستخدمين على مواجهة الطغيان الرقمي القادم، (٢) كبح قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على تشتيت الأذهان و اختطاف الانتباه . المعلومة المثيرة التي اكتشفتها من صفحات الكتاب هي أن معظم كبريات شركات وادي السيليكون كتويتر و فيس بوك و إنستقرام تقوم بتوظيف أشخاص يوصفون وظيفيا بمهندسي الانتباه و يتركز عملهم على جعل منصات التواصل ذات جاذبية إدمانية فلا يستطيع الأفراد الانعتاق منها. الأكيد إن وسائل التواصل و الوسائط تتلاعب بروادها عاطفيا و سلوكيا من خلال فرض السيطرة على أثمن الممتلكات البيولوجيه: الانتباه بدقة و الانغماس بشدة. ختاما، أشجعكم على الديتوكس الرقمي و أدعوكم للاستمتاع بقراءة ديجيتال مينيماليزم.