التاريخ اليتيم
“دخلنا أم التاريخ”!
كانت هذه هي العبارة التي هتف بها اليوتيوبر الشهير الذي حقق مع ثلة أخرى من اليوتيوبرز رقما قياسيا على منصة اليوتيوب، يتمثل الإنجاز الذي حققته تلك المجموعة في تنفيذ بث حي لأكبر إفطار جماعي خلال شهر رمضان على منصة اليوتيوب حضره ملايين المتابعين و المتابعات. و النتيجة كانت تحقيقهم رقما قياسيا، فدخلو بهذا الإنجاز إلى موسوعة جينيس للأرقام القياسية. تفاعل اليوتيوبرز المشاركين مع هذا الإنجاز بحماس شديد وفرحة عارمة و أرسلو التهاني و الشكر لكل من تابع ذلك البث من متابعيهم الذين ينتمون لشرائح عمرية مختلفة و مناطق جغرافية متعددة.
استوقفتني عبارة كانت هي المحرض الرئيسي لكتابة هذا المقال،
صرخ اليوتيوبر: “ شكرا لكم يا أحلى متابعين و متابعات، بوجودكم قدرنا نصنع أم التاريخ! “ انتهت العبارة و بدأ وجعي..
تطبيع التفاهة و الذوبان اللغوي/القيمي
قد لا يسترعي ذلك القول انتباه أحد من المتابعين أو المتابعات لذلك البث المليوني آنف الذكر، لكنه سبب لي انتفاضة فكرية جعلتني استرجع الكثير مما قرأته سابقا عن دراسات الهوية و اللغة و علم نفس الطفل و سيكولوجيات الجماهير . عندما تكون قنوات اليوتيوب القائمة على التهريج و ضحالة المحتوى جاذبة للأطفال و للناشئة فإن العديد من الثمار المحرمة ستجد طريقها إليهم، ثمرات مثل السعار السيبراني، تصعيد شهوة الاستهلاك و عولمة التفاهة فيصبح من الصعب تمييز الجيد من الرديء و الجميل من القبيح و المفيد من الضار.
أيها اليوتيوبرز، التاريخ لا يريد منكم أما و لا أبا و لا حتى ذرية، أرجوكم اصنعو تاريخكم بين مقاطعكم المليونية التي لا تفعلون فيها شيئا غير تحريك شخصيات الألعاب الإلكترونية أو تنفيذ المقالب السخيفة في أفراد عائلاتكم.
أستعير هنا التحليل الذي تصدى به المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري لظاهرة الفيديو كليب الذي شاع خلال تسعينيات القرن الماضي، يقول المسيري ” إن تحطيم المقولات العقلية واللغوية هي عملية ذوبان و سيولة، إن القنوات الفضائية التي تذيع الفيديو كليبات تصل إلى منازلنا وأحلامنا وتعيد صياغة رؤانا وصورتنا للآخرين ولأنفسنا، دافعها الوحيد هو الربح المادي، وليس الاستنارة أو تعميق إدراك الناس لما حولهم، فهي مشاريع رأسمالية طفيلية تبحث عن الربح و التنافس الذي لم تكن نتيجته الارتقاء بالمستوى الفني والجمالي، وإنما المزيد من الإسفاف والاغتراب والعرى الذي سيتزايد حتما مع الأيام “ و ما أشبه الليلة بالبارحة يا دكتور!
عندما يصبح المشاهير من أصحاب المحتوى الرقمي الركيك متصدرين لوسائل التواصل، التي تكثف اللجؤ اليها بحسبانها أحد أهم مصادر الترفيه، سيؤدي ذلك بالضرورة إلى تنميط التفاهة و التسطيح فيصبح التهريج هو المعيار، إن عمليات التنميط و التطبيع هذه تقحم هؤلاء المشاهير في حياتنا اليومية العادية فيتحولون إلى مثل يحتذى به أو قدوات يسعى في أثرها و هذا أمر خطير وانعكاساته السلبية بمثابة جريمة في حق الأجيال الناشئة. من تبديات الاستبداد الرقمي أن بعض المشاهير الحمقى، هذا الكليشيه الذي لا أجد مفرا من استخدامه، يتصدرون الترند و يجرون الأطفال و المراهقين الى قنواتهم اليوتيوبية المتخمة بكل شيء عدا الفائدة.