سؤال وجواب

ماذا بعد التخرج من كلية الحقوق؟

تردني بين الحين والآخر العديد من الأسئلة حول ما بعد التخرج من كلية الحقوق، واختصارًا للوقت وحرصًا على عدم تفويت أي تفصيل مهم، فإني أجيب هنا على أكثر الأسئلة ورودًا إليّ بناء على رأيي الشخصي.


من البداية أقول لك:

هذا قرارك أنت، وليس أنا أو غيري

لن أقرر عنك إطلاقًا أي قرار، هذه مدونة لتحفيز دماغك على التفكير من عدة زوايا، أما القرار فمسؤوليتك أنت ولو شجعك جميع الناس على قرار معين. هذه أحد الفروقات الهامة قبل وبعد التخرج، فالآن سيتحتم عليك اتخاذ قرارات شخصية عديدة، بمفردك، بعد أن تقوم بعمل اللازم من بحث واستشارة. وبالحديث عن الاستشارات، فلا تأخذ أي استشارة وكما لو أنها الصواب بعينه مهما كان المستشار خبيرًا، ويدخل في ذلك ما سأقوله في هذه التدوينة.

حيرة! حيرة! حيرة!

بالحديث عن القرارات، فالقرارات مصحوبة بالحيرة دومًا، والحيرة تصبح شديدة بعد التخرج عادةً، وهو ما يصيب العديد من الخريجين بالذعر. لطمأنتك بعض الشيء، فمعظم الخريجين يمرون بهذه الفترة، خاصة مع تعدد الخيارات في هذا الزمن وتنوع المجالات. لا تعتقد بأن مشاعرك الحائرة الخائفة استثنائية، ولا يغرنّك الاطمئنان البادي على وجوه الغير. ركز على نفسك فحسب وحاول التخفيف قدر المستطاع من المقارنات. ابتداءً من لحظة التخرج لم يعد يجمعك بزميلك معدلٌ واحد، أو معلّمٌ واحد، أو نظامٌ واحد، بل ستبدأ قراراتكما بالاختلاف كثيرًا منذ هذه اللحظة، فلا تبنِ قراراتك وحياتك بناء على ظروف وحياة غيرك.


التدرب في المحاماة أم الماجستير؟

لست محامٍ، وما سأقوله فهو مبني على استماعي لمحامين كثر بالإضافة إلى رأيي الشخصي.

 

المحاماة عبارة عن تراكم خبرات، بمعنى أن الجهد الذي تضعه فيها مباشرة (بالتدريب) عاملٌ مهم في صقل خبرتك، والخبرة تحتاج إلى وقت، فالوقت إذًا مهم، وكلما كان الوقت الذي أمضيته في اكتساب هذه الخبرات أطول، كلما زادت فرصك في تعلم المهنة.

إذا كان توجهك هو المحاماة، فأنصح بالتوجه لها مباشرة بعد التخرج (وربما قبله).

استثناء واحد

اللغة الإنجليزية مهمة، فهي لغة الأعمال. قد لا تحتاجها في كل قضية، لكن يمكن القول أنّ كل لغة أجنبية تضيفها إلى سيرتك تفتحُ لك فرصًا أكثر، خاصة في العالم التجاري. قد تأتي اللغة بالابتعاث لدراسة الماجستير، فإن أتتك الفرصة فعلا فإني أنصح بالابتعاث وأفضّله على التدريب.

أما إن كانت دراسة الماجستير محليًا، فأعود حينها لرأيي الأول وهو تفضيل التدريب لاكتساب الخبرة.


ماذا عن العمل الأكاديمي؟

حتى تنافس على وظيفة "معيد" عليك بالآتي:

 

1) أهم معيار هو المعدل، وكلما علا كلما كانت فرصك أفضل. ولو كنت "الأول" على دفعتك فإن بعض الجامعات السعودية تتيح لخريجيها ما يسمى بوظيفة "معيد بالتميّز"، فيتم تعيينك بلا مفاضلة أو مقابلة.

 

2) اللغة الإنجليزية: أيضًا كلما علت درجتك في التوفل أو الآيلتس كلما كانت فرصك أفضل.

 

3) المقابلة الشخصية: في الغالب فإن أفضل المرشحين الأوائل للوظيفة متقاربون في المعدل الدراسي واللغة الإنجليزية، وبالتالي فإن المقابلة الشخصية (و الاختبار التحريري إن وُجد) هو الفيصل بين المرشحين.


الوظيفة (في غير المحاماة) أم الماجستير؟

تعتمد الإجابة على وضعك المالي، وعلى عدد الفرص التي تأتيك بناءً على مؤهلاتك، وعلى توجهك المهني.

فلنفترض أنك شخص ينعم بدعم مالي جيد من قبل عائلتك ولا تحتاج للصرف عليهم، وأنك تخرجت بمعدل عال وتملك مهارات جيدة وسيرة ذاتية ممتلئة بما لذ وطاب لمدراء التوظيف، حينها فلا خوف على شخص منعَّمٍ مجتهد مثلك أن يقدم على الماجستير قبل الوظيفة، فالوظيفة لمن هم مثلك قد تأتي لاحقًا.

في المقابل فإنك لو كنت محتاجًا لمصدر دخل فور تخرجك، أو أن مؤهلاتك متوسطة أو ضعيفة، والفرص ليست كثيرة أمامك، فقد يكون التمسك بالوظيفة أولى في تلك الفترة، وقد تتاح لك دراسة الماجستير فيما بعد.

 

كنصيحة عامة: أرى أن تتمسك بالوظيفة لتخرج ابتداءً من جو الدراسة إلى جو العمل؛ مالم تكن دراسة الماجستير عبر ابتعاثٍ خارجي.


ماجستير داخلي أم ابتعاث لدراسة الماجستير؟

يتضح لك – عزيزي القارئ – مما سبق أن فكرة الابتعاث استثنائية في رأيي، لذا.. ودون مقدمات:

 

إذا كانت ظروفك الصحية والأسرية والمالية تسمح فاتجه للابتعاث الخارجي، وذلك للأسباب التالية:

 

1) لأنك ستتعلم لغة أجنبية وقد ذكرت فائدة ذلك أعلاه، كما أن تعلمك للغة الإنجليزية يعني قدرتك على الاطلاع على قدر هائل من المراجع – العلمية وغير العلمية – سواء فيما يفيد حياتك المهنية أو حتى في حياتك الشخصية. حتى وإن عملت يومًا ما معلّمًا للإملاء باللغة العربية عوضًا عن أي مجال قانوني فسأظل أنصحك بتعلم اللغة الإنجليزية بأي وسيلة متاحة.

 

2) لأن التعليم القانوني في الدول الغربية مثل أمريكا وبريطانيا يكسبك مهارات جيدة إذا اجتهدت ودرست في جامعة جيدة. على سبيل المثال: يتم التركيز من قبل الأساتذة على تطوير مهارة التفكير النقدي لديك، فيطرحون في القاعة الدراسية موضوعًا قانونيًا معينًا يتطلب منك ذكر عيوبه ومحاسنه. هذه العملية – على قدر بساطة ظاهرها – إلا أنها تغير طريقة تفكيرك حتى فيما يخص حياتك الخاصة. فلنفترض أنك دخلت "تويتر" ووجدت وسمًا عن قضية اجتماعية معينة، بإعمالك للتفكير النقدي السليم الذي تعلمته في الجامعة أؤكد لك أن آراءك ستكون أكثر حكمة وأقل عاطفية واندفاع.

 

3) لأن تعلم القانون المقارن يضيف لعقليتك القانونية حيث ينبهك على أوجه التشابه والاختلاف بين القوانين وذلك بدوره ينبهك على محاسن/مساوئ الأنظمة المحلية، بل وثغراتها أيضًا.

 

4) لأن الابتعاث والغربة تجربة متكاملة لا تقتصر على الدراسة فحسب، بل تعلمك أكثر من ذلك بكثير مما يتطلب تدوينة خاصة لذكر التفاصيل!

 

في جميع الأحوال أنوه على أن مرحلة الماجستير (داخلي أو خارجي) تعلمك مهارة البحث، والبحث عن المعلومة واستعمالها هي جوهر عملك كقانوني، وقد تكون – في رأيي – أهم مهارة يجب تعلمها، بماجستير أو بدون ماجستير.


ماذا أتخصص في القانون؟

أشير عليك هنا أن تتفكر بعدة أمور:

 

أولًا: النصيحة المملة المعتادة: فكر في ميولك، فإذا لم تكن تعرفها ففكر في مواد الجامعة التي درستها، فهل كنت ميالًا للمواد التجارية؟ أم الجنائية؟ أم الدولية؟ أم ماذا؟

مهما كان التخصص "مطلوبًا في السوق"، لن تستطيع الإكمال إن اخترت القانون الجنائي مثلا وأنت لا تحتمل قصص الجرائم والعقوبات. إن لم تكن قادرًا على الاختيار، فقم بالاستبعاد، أي أن تستبعد مالا يعجبك. قد يكون من الجيد أيضًا أن تتعرف على المجالات بشكل عملي، سواء عبر التدريب في مكاتب المحاماة، أو عن طريق قراءة المدونات القضائية على أقل تقدير.

وعلى العكس من ذلك فليس الميول وحده كافٍ للاختيار، فدراستك لتخصص شائع بسبب ميولك له يترتب عليه وجود منافسين كثر لك على الفرصة الواحدة، وهذا لا بأس فيه، لكن عليك وضع ذلك في الحسبان لتتميز عنهم بأمر آخر غير مجرد التخصص.

 


ثانيًا: حسبما أراه في الوقت الذي كُتبت فيه هذه التدوينة، فإن مملكتنا الحبيبة متجهة إلى تطوير البيئة التجارية لدينا، ولا يخفى على مطلع عدد المنشآت التي أسست لهذا الغرض، والمبادرات التي تم الإعلان عنها، والاهتمام مؤخرًا بتطوير المحاكم التجارية والوسائل البديلة لفض المنازعات كالتحكيم والوساطة، الأمر الذي يشجع على التخصص في القوانين التجارية، وهنا وجب التنويه على أمر ما:


القانون التجاري عبارة مطاطة، تحوي تحتها العديد من التخصصات الدقيقة، فقد تتخصص في الإفلاس، وقد تتخصص في حوكمة الشركات، وقد تتجه إلى الملكية الفكرية لاتصالها الوثيق بالأنشطة التجارية، وغيرها.

 

بالإضافة إلى القانون التجاري، هنالك اهتمام حالي ببعض فروع القانون الأخرى كالقانون الضريبي، والأمن السبراني، والذكاء الاصطناعي، والسياحة، والتأمين، والفضاء.


أمريكا أم المملكة المتحدة للابتعاث للماجستير؟

حقيقة الأمر أن الخيارات أكثر من ذلك، فالمدرسة الفرنسية أيضًا جديرة بالاهتمام، وامتلاكك للغة ثالثة قد يفيدك إذا توجهت إلى قطاع يتعامل مع جهات أجنبية.

 

كما يجدر بك عند الاختيار أن تأخذ عوامل أخرى غير دراسية في الحسبان. فأنت ستعيش هنالك لفترة، وعليك أن تختار الأنسب لنفسك ولنفسيتك ولظروفك المادية والاجتماعية.


قد تتميز أمريكا بوجود تخصصات دراسية دقيقة يمكنك الاختيار منها كأنظمة العلوم والتكنلوجيا، أو قوانين الإعلام، وقد تركز جامعاتها على تطوير مهارة النقاش والتحدث أكثر من نظيرتها الإنجليزية. كما أن معظم المدن الأمريكية الكبرى – في نظري الشخصي – أجمل من معظم المدن الكبرى الإنجليزية، باستثناء لندن.

 

 في المقابل فإنه يمكن القول بشكل عام أن المدرسة الإنجليزية لها قوة في تطوير الجانب البحثي للطالب ومهارات الكتابة. كما أن المملكة المتحدة تتميز بقرب المسافة والأمن. كما أن الطعام الحلال متوفر في أماكن عدة، وكذلك المساجد والمصليات. باستثناء لندن، فإنه يسهل التنقل مشيًا على الأقدام في مدن بريطانيا الكبرى حيث تتوفر الخدمات حول الجامعة الأساسية في المدينة، وتتوفر المساكن حول الجامعة، والمساكن في وسط المدينة كلفتها متناسبة مع مقدار مكافأة المبتعث، ولا يحتاج الفرد إلى سيارة خاصة إلا من كانت لديه عائلة.

 

هذه نظرة عامة فحسب، والمقصود منها أن تفكر في شتى الأمور المتعلقة بالابتعاث، وليس ترتيب الجامعة ومستواها فقط. قد تختلف التفاصيل عما كتبته أعلاه، لذا فعندما تصل لمرحلة الاختيار، أدرس اختياراتك جيدًا وبالتفصيل.

 

أمريكا أو المملكة المتحدة ... في النهاية المهم هو اختيار ما يناسب أهدافك وظروفك، لا أكثر.


ملاحظة: عندما تختار الجامعة اقرأ تفاصيل برنامجها

لا تعتمد فقط على ترتيب أو تصنيف الجامعة، فإذا اخترت القانون التجاري الدولي مثلا، فاقرأ عن المواد المتاحة وعددها وآلية التقييم. درستُ أنا وصديقي في جامعتين مختلفين في ذات الدولة وفي المدة نفسها، لكني درست فقط أربع مواد، في المقابل درس صديقي أكثر من ست. نظام جامعتي أتاح لي خيارات أقل لكني درست المواد الأربع بعمقٍ أكبر، بينما درس صديقي موادًا أكثر تنوعًا لكن بعمقٍ أقل.

 

من المهم أيضًا أن تتطلع على طرق التقييم، والطرق في الجامعات البريطانية عادة لا تخرج عن طريقتين تختلف حسب المقرر الدراسي في جدولك: إما اختبار واحد نهائي مقالي من ١٠٠ درجة، أو تقديم بحث من عدد معين من الكلمات (٣٠٠٠+)، وقد يكون البحث أكثر مناسبة لك من حيث أنك تكتبه دون التوتر المصاحب للاختبارات، كما يتسنى لك أن تكتب على جهازك المحمول في منزلك ليصحح لك الأخطاء الإملائية والكتابية، بخلاف الاختبار الذي يكون ورقيًا في الغالب وفي سباق مع الوقت.


بعيدًا عن اختيار المسار: بماذا تنصح للتطوير واستغلال وقت الفراغ؟

1) اللغة الإنجليزية

لن أكثر الحديث عنها، كل ما أريد قوله أن اتقانك لها قد يفتح عليك أبوابًا كثيرة على المستوى الشخصي قبل المهني. معظم مصادر العلم والتعلم باللغة الإنجليزية، والمحتوى العربي ضئيل جدًا مقارنةً بالمحتوى الإنجليزي. أما من حيث المسار المهني والتعليمي فأنت أعلم بمتطلباته ولا أحتاج إلى تذكيرك بأهمية اللغة مرة أخرى.

 

2) حاول أن ترسم الصورة الكبرى لما تعلمته في الجامعة

 

لقد درستَ مادة الإثبات في مقرر دراسي مستقل، صحيح؟ وكذا المرافعات والتنفيذ و القانون التجاري. وعلى العكس من ذلك فإن واقع العمل القانوني يتطلب منك أن تربط بين تلك القوانين. فلو عُرضت عليك قضية مثلا، فإن عددًا من القوانين المترابطة ستنطبق عليها.

 

جاء أحمد إليك وقدم إليك ورقة اتضح أنها عقد (مصدر التزام) ترتب آثارًا قانونية (أحكام التزام) في مواجهة خالد الذي في حوزته كمبيالة (أوراق تجارية) مسحوبة لمصلحة أحمد، وبينهما نزاع موضوعي في المحكمة العامة (مرافعات شرعية) ونزاع تجاري (نظام المحاكم التجارية) ونزاع متعلق بالكمبيالة (دعوى صرفية أمام قاضي التنفيذ - تنفيذ).

 

لا توجد لدي نصيحة لكيفية عمل ذلك، هي عملية عقلية، وقد أعطيتك المثال لتفكر بنفسك في الكيفية التي تناسبك.

 

3) استغل وقت الفراغ بتطوير المهارات

 

  • الانترنت ممتلئ بالعقود والمذكرات القانونية، تدرب على صياغتها، وعلى الصياغة اللغوية السليمة بشكل عام.

  • اقرأ كثيرًا، وكثيرًا جدًا. اقرأ كتبًا، أبحاثًا، وأحكامًا قضائية.

  • طور مهارة البحث العلمي لديك، فهو يضيف لك مهارات قابلة للتطبيق حتى خارج الصرح التعليمي.

  • تطوَّع، أو اعمل في وظيفة مؤقتة. الفراغ مدمر، ومدمر جدًا. عمل مجاني أفضل من فراغٍ مكلف.

 


أخيرًا...

هذه تدوينة متجددة، كتبت فيها رأيي الشخصي – القابل للتغيير – والهدف منها - كما ذكرت في بداية التدوينة - هو إعطاء إجابة كاملة عن الأسئلة التي تأتيني بين الحين والآخر. قد يكون لك أو لغيرك وجهة نظر مختلفة، ولا بأس في ذلك على الإطلاق. افعل ما أنت مقتنع به.

 

مهما اخترت في النهاية...فاعلم أن الله سبحانه قد ساقك إلى هذا الاختيار، وسواء ربحت باختيارك أم خسرت فكن على يقين أن خلفه خيرٌ ولو لم تعلمه. هذه ليست إيجابية، هذه قناعة شخصية بالله وتسخيره وقدرته.


عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير

بالتوفيق لك يا زميل التخصص.


عَبْدالرَّحْمَن