ثَرثَرةُ صفيّة البهيّة
مرحبًا عزيزي خليل!
آمل أن تكون بخير.
قد تسألُ نفسك عن سبب رسالتي هذه، خاصة وأنه لا تجمعني بك صِلة صداقةٍ قوية… بعد. غير أني أستشعرُ سجيّتك التي تضّم صفاتٍ عدّة من تلك التي أقدّرها في الإنسان. إنني امرئ هادئ، غير أنّي أصبحُ بالغَ الإزعاج عندما تخلو الغرفة إلا من مقرّبين. حينها… تنطلقُ سجيّتي التي تحبُّ من يتحدث بعمقٍ ولو بإسهابٍ طويل، ويرشقُ أعماقي بوابلٍ من المعاني، فلا تمتلئ الغرفة مجددًا بغيرنا إلا وقد امتلأ جوفي أيضًا برغبةٍ ملحّة في الحياة والعمل والسعادة والعطاء.
برسالتي هذه أحسبُك من أصحابِ هذا العُمق الذي يحمله اسمُك أيضًا.
أما بعد،،،
لقد مرّ زمنٌ على رحيلِ زوجتي عن هذه الحياة، ولا داعي هنا أن أصفَ التقلّبات النفسية التي مرّت نفسي بها منذ ذلك الحين. فقدُ الأحباب مُرٌّ دائمًا، ولقد مررتُ بكّل مراحل الصدمة التي يمرّ بها الفاقد لأحبابه. عُدتُ الآن طبيعيًا… تخلصتُ من ضعفي، واستقللتُ بمسؤوليتي عن ذاتي، ولم تعد الحاجة تدعوني لطلب العون والمساعدة.
غير أنّي أتوق لعدمِ الاستقلال… أتعرف؟ أعودُ كلّ يومٍ إلى المنزل على حصاني، متنزهًا به بين أروقة البلدة وكأنني سائحٌ يتأمل وجوه الناس التي تتحدثّ بلا أي صوت. أربطُ حصاني بمحاذاة الباب، وأبدأ بإعداد طعامي على نارٍ هادئة لا يُسمع لهيبها، تمامًا كالتي تسكنُ جوفي. أستلقي على أريكتي متأمّلا صمتَ السقفِ والجدران. يقولون أن “للحيطان آذان”.. أتمنى.. لو أنّ لها لسان أيضًا!
كانت امرأتي صفيّة مختلفةً عنّي، لم تكن هادئةً مثلي، فجوفها ممتلئٌ بالحكايا التي لا تنتهي! لطالما أمضيتُ ساعاتٍ على هذه الأريكة منصتًا لقصصها. لم تكُ الأخيرةُ ممتعةً على الدوام، لكن كانَت كفيلةً بإعطاءِ لهيبي الداخلي صوتا.
لمْ أنسَ تلكَ النظرة التي رمَقني إياها جارُنا مستنجدًا بأن أكفّها عن الكلام كي ينصرف شاكرًا الوليمة اللذيذة التي أعدّتها صفية، ولطالما أضحكتني تعليقاته حولَ قدرتي التحمّلية لهذه “الثرثرة” كما يسميها. أتعرف يا خليل؟ لمْ تكن “ثرثرتها” مصدرَ ضيقٍ لي يومًا… يحتاجُ من هُم صامتون مثلي أن يهزّ أحدهم أُذنه على الدوام، ولقد أجادتْ صفيّة ذلك.
عزيزي خليل…
أنا بخير و - الحمد لله - قويٌ كذلك. أفتقدُ صفيّة صاحبة القصص البهية فحسب… أفتقدُ صاحِبَتي.
أرجو أن تكونَ أنت بخيرٍ كذلك، وأن يُنعم الله عليك بالأنسِ البَهِيّ.
كُن بخير.
عَبْدالرَّحْمَن