حين مرت كورونا في مكة
د. قاسم الخطيب شاهد على الحدث..
القادم من الصين على مهل، يعبر القارات دون أن نلقي له بالاً، يلطم كل خدٍ يعترض طريقه.. الفيروس الذي أتى في صورته انفلونزا الخنازير والطيور وغيرها، فيروس حمل معه كارثة عظيمة لم تتوقعها البشرية، استقبلته قلوبٌ طاهرة، ترفع يديها إلى السماء وتقول: اللهم سلِّم سلِّم، كونها اعتادت على سابقته من الأمراض الفيروسية التي لم تلبث حتى انقضت سريعاً وأصبحت في طي النسيان.
مجهول الهوية وبلا جواز سفر، يتسلل عبر الجو والبرِ والبحر، نهضت في مواجهته الجيوش البيضاء، تضامنت ضده كل الأسماء، ليصل أخيراً إلى مدينة مكة المكرمة، إلى جبالها.. طرقاتها.. طلابها.. معلميها.. ممارسيها الصحيين!
في رحلتنا للتقصي عن تلك الفترة كانت ذاكرة الأطباء هي قبلتنا الأولى في البحث عن التفاصيل التي لم ترصدها في الأخبار، عن اليوم في جائحة كورونـا كيف يمر؟ عن ليالي الحجر الصحي، عن ضجيج المستشفيات رغم هدوء الشوارع، مررنـا بتلك الأسئلة على د/ قاسم الخطيب رئيس قسم العناية المركزة في مستشفى النور التخصصي ومدير العنايات الحرجة بالتجمع الصحي الأول بمكة المكرمة وتركنا له المساحة كشاهد على الحدث
قال قاسم الخطيب في تذكره لتلك الفترة..
لازلت أذكر أول حالة كورونـا وصلت لمستشفى النور التخصصي، والقلق الذي شعرنا به أنا والزملاء، عن الزائر الغريب القادم بقوة، وكيف تجاوزنـا الأمر مع تصاعد الحالات والعمل كفريق.
بحكم العمل في مكة وفي مواسم الحج والعمرة على وجه الخصوص مررنا بالكثير من التحديات الصحية، لكن في هذه الجائحة بدا الأمر بصورة ضبابية
كان القلق سيد الموقف، وبدأ السؤال يُلح ما هي الخطة؟ الجميع بعد ذلك يعرف الأحداث والجهود التي قامت بها وزارة الصحة، لكن على المستوى الشخصي، كنت كأي شخص يعمل في القطاع الصحي رغم ضغط العمل، والأسرة، والأبناء لا مناص من القيام بالواجب والوقوف بمسؤولية لمواجهة الجائحة.
وعن أكثر المواقف تأثيراً في ذاكرته تحدث قاسم الخطيب
عن د. طارق العيدروس. الحاضر رغم الغياب "لم يتردد لحظه رحمه الله في الذهاب إلى العمل وتحفيز العاملين والممارسين الصحيين لمواجهة هذه الجائحة، قبل أسبوع من إصابته بفيروس كورونـا كنت معه نعمل على ترتيب أفضل الإجراءات والسياسات لوقت التدخل الجراحي لمرضى فايروس كورنـا، ولم يشفع له إخلاصه وعطاؤه في محاربة الفيروس، في أن يكون أحد الناجين من هذه الجائحة، عمل جاهداً لمعالجة المرضى، بين السهر وتقديم الاستشارات الصحية والتضحيات الكبيرة تقاسم الدكتور طارق العيدروس والخطيب أيامه الأربعين الأخيرة معنا في المستشفى كمريض لا كطبيب كعادته، وتركت وفاته أثراً كبيراً في نفوسنا:
سامية.. التفاني رغم الحزن
إحدى القصص المؤثرة التي عايشتهـا شخصياً وقفت سامية على وفاة والدتها المتأثرة بإصابتها المفاجئة بالفايروس ليضعها القدر في مكان الألم والحزن، كانت تعمل معنا بتفانيها المعهود بالقسم في اللحظة التي كانت والدتهـا تُنقل لـمستشفى النور التخصصي في حالة حرجة متأثرة بهذا الوباء، توفيت والدتها فيما بقيت معنا تسمو بتفانيها في العمل رغم كل المشاعر المرتبكة التي نعتقد أنها تعيشها معنا.
موعد مع الفرح
في الملمات، في الأيام الاستثنائية لا بد أن نكون مع موعد مع قصة تُزهر أيامنا رغم شحوب الليالي، نستفيق لنجد أننـا أمام حكاية تقول هناك متسع من الأمل، أنه وبرغم كل شي مازالت الطرقات معبدةً لفرحة غير متوقعة، د. شهد و د. راكان كان لهما موعد مع القدر قبل الجائحة بشهرين أصبحا ضمن فريق العمل في قسم العناية المركزة، عملا سويا بكل تفاني في الإشراف على حالات كورنـا حتى تسللت بينهما كيمياء الود لتأتي صبحية إحدى أيام الجائحة بنبأ سعيد عن زواجهما، تحلقنا حولهما كعائلة واحتفينا وباركنـا لهما فمع زحام القصص الموجعة كنا متعطشين لخطوة تُلهمنا بدنو الفرج، وتعافي الوطن من الجائحة.
العودة للحياة
إحدى القصص المحفورة في ذاكرتي هي قصة المريض (م. ع) الذي حظر للمستشفى بـحالة حرجة جداً ، استدعت وضعه على التنفس الصناعي، حتى عاد بإرادة الله من الموت للحياة عندما كتب الله له التعافي، وفي صبيحة أحد الأيام تواصل معي لدعوتي لزفافه، مثل هذه المواقف هي ما تُشعرنا بالامتنان والرضى رغم صعوبة العمل.
كيف سرعت كورونـا من التحول المؤسسي
وفي الجانب الآخر للرصد والعمليات يحكي د. قاسم الخطيب رئيس قسم العناية المركزة بمستشفى النور التخصصي ومدير العنايات الحرجة بتجمع مكة المكرمة الصحي كوفيد19 بالمستشفيات في مكة، عن مواجهة التحديات في توفير عدد أكبر من الأسرة والعقاقير الطبية اللازمة، مع توجيه الرعاية الصحية للمرضى بالعناية دون التأثر أو التهاون تجاه حالات كورونا المستجد.
وبدعمٍ لا محدود من وزارة الصحة، وبتواصلٍ مستمر من وكلاء المباشرة الذي ساهم بشكل رئيسي في إحداث نقلات نوعية في مستشفيات مكة المكرمة حيث تم توسيع أقسام العناية المركزة في المستشفيات، وتطوير وتخصيص مركز متخصص لأكسجة الدم لحالات كورونـا في مدينة الملك عبد الله الطبية، الذي يُعد المركز هو الأول في مدينة مكة المكرمة.
بالإضافة إلى الدعم الإداري والمعنوي الداعم في توحيد السياسات والإجراءات والجهود في جميع مستشفيات وزارة الصحة بالمنطقة، حتى أصبحت الأمور أكثر وضوحاً لنمضي قُدماً وبخطى واثقة في تعزيز صفوفنا وقدراتنا لمواجهة هذا الوباء المخيف.
كما كان التفاني في العمل سيد الموقف عندما تعرض بعض الممارسين الصحيين للإصابة بكورونـا ثم عادوا فور تعافيهم، للعمل كفريق واحد وبروح معطاءة رغم الضغط والخوف والظروف القاسية آنذاك
في حين سارعت الخطط المؤجلة في تجهيز خط المواجهة الثاني من الممارسين الصحيين حيث تم تدريب الكثير من الأطباء من تخصصات مُختلفة ليتم تأهيلهم للتعامل مع الحالات الطارئة والحرجة في أقسام العناية المركزة.
وقد تم تزويد المستشفيات بعدد من الأسرة التي تتيح للممارسين استقبال أكبر عدد ممكن من الحالات لتقديم الرعاية الصحية لها وحيث تم زيادة عدد أسرة العناية المركزة والحالات الحرجة إلى حوالي 3 أضعاف :
وبفضل الله ثم بفضل دعم الحكومة الرشيدة ممثلةً في سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك/ سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير/ محمد بن سلمان - حفظه الله - الدعم الذي لم يحدد بهوية أو بشرط أو بتخصيص، كان السبب الأهم في تجاوز هذه الجائحة التي طالما طاردت الممارسين في أحلامهم، والمواطنين والمقيمين في أفكارهم، لذا نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن نكون دائماً عوناً لهذا الوطن العظيم في أزماته.